الاثنين، 28 يوليو 2008

بيب بيب - رواية قصيرة ساخرة

-1-

انتهي حفل افتتاح هذا المشروع الضخم الذي تم تنفيذه بنجاح أشاد به السادة الحضور من المسئولين والوفود الأجنبية. ركبت سيارتي، شرعت في قطع طريق كورنيش النيل، مرورا بميدان التحرير، في طريقي إلي مدينة نصر حيث أسكن.
أنتابني شعور بالتعب والإرهاق، تزايدت معه رغبتي في النوم لقرنين من الزمان، لكن تذكري لنجاح المشروع، رفع عن كاهلي التعب.
رغم أن الإحباط لم يفارقني، لكون مجهودي ذهب كالعادة إلي مديري،الذي نلقبه ب"المحظوظ". لكنى لا أرى الأمر حظا، بقدر أنه تخلف إداري ومحسوبية نعاني منها في أيامنا تلك. لم يفلح معها كوني من أسرة ذات نفوذ وعلاقات قوية، فدائما هناك من هو أقوى منك.


أنقذتني الطبيعية من هذا الشعور، وكانت بي حفية، تألق النيل وقت الأصيل، يرسل النسيم العليل ليداعب وجهي، يحرك أوراق الأشجار لتتراقص فرحا. ازدادت لدي الرغبة في الاستمتاع بهذه الروعة التي لا تجدها في أي مكان آخر في الدنيا. وأين تجد نهرا كنهر النيل، يشبه في صفاته أنهار الجنة؟ (1). قدت بسرعة متوسطة، إلي أن وصلت إلي ميدان التحرير.


أخذت أدور مع الميدان، أوقفتني إشارة ضوئية لتنظيم المرور. كنت أرقب كوبري السادس من أكتوبر، لأرى إن كان يعاني من اختناقات مرورية أم لا. حينها واتتني فكرة شراء هدية لزوجتي، فقد تغيبت عنها لمدة ليست بالقصيرة. لم أعلمها بانتهاء العمل في المشروع، وحصولي على عطلة، لأعد لها مفاجأة. أعرف متجرا تحب زوجتي الشراء منه كثيرا. عزمت أن أكمل دورتي، لأتوجه إليه.
أكملت الدورة مع الميدان، أخذت أمد رأسي ناظرا ناحية اليمين، محاولا الانضمام إلي السيارات القادمة من تلك الجهة. أعتمدت على الزحام الشديد المعتاد في الميدان، ليساعدني على الانضمام بانسايبية إلي الطريق.
يحتاج الأمر إلى عملية جراحية معقدة. يجب أن أقحم مقدمة السيارة جزءا جزءا، حتى احتل مكاني في الطريق. تسمى هذه العملية ب"البوز بيز" أو قاعدة فن احتلال الطريق بواسطة مقدمة السيارة. تحتاج هذه القاعدة إلي الكثير من التمرس والتركيز، حيث تشتمل على كل قواعد علم النفس والاجتماع، وهي اختراع مصري مئة بالمئة.


تمكن المصريون عبر الزمان من إتقان هذه العملية، وتطوير قدراتهم على استقراء الشخصيات، وتوقع ردود أفعالهم. فمثلا، إذا كان السائق المنافس سائحا من دول الغرب، فسيظل باقيا في مكانه إلي يوم أن يبعث. أما إذا كان مصريا، يبدو على سيماه الاحترام، أو أنه غريبا عن القاهرة، فهذا لقمة سائغة. لكن إذا كان سائقا لسيارة أجرة، أو شابا من شباب هذا الجيل، فالعملية أصعب بكثير. وهنا ينتصر من يملك المستوى الأعلى من الجرأة والتحكم في الأعصاب. لم أحب وصف بعض أصدقائي لهذه العملية، بأنها عدم لباقة وقلة ذوق. فهي تمتاز بالكثير من المتعة والإثارة، وتزيد من قوة الشخصية.


نتيجة لتركيزي الشديد، لم أنتبه لجندي المرور، الذي كان يشير لأتوقف، إلا عندما طرق زجاج سيارتي بشدة. أصابني إحباط شديد، حيث أن عدة سنتيمترات خالية قد ظهرت في الطريق، كانت تكفيني لاحتلال مكاني.
فتحت زجاج النافذة، نظرت إليه متأملا. وجهه أبيض، مستدير مثل البطيخة، يحمل شاربا كبيرا، وعينين ضيقيتن، وربما يكون حجم أنفه الكبير هو الباعث على الشعور بضيق عينيه هكذا. يرتدى بذلة بيضاء - لا تمت بصلة إلي هذا اللون الناصع-، يقع حزامه أسفل كرشه المنتفخ، وهذه صفة مميزة لنا نحن المصريون، حيث أننا نحمل لقب أكبر دولة يملك رجالها كروشا في العالم. ولم أتمكن من استكشاف إذا كان يحمل النصف الآخر من ختم النسر المميز لجميع التعاملات الرسمية في مصر. أعنى بذلك صلعته، حيث حالت قبعته دون الكشف عن حقيقة وجودها.


هززت رأسي في استنكار، كأني أسئله عن سر إزعاجه لي. ارتسمت على وجهه ابتسامة من وجد سائحا ساذجا - كما نظنهم دائما في مصر- ليبيع له تمثال أبا الهول، توقعت أنه سيقول لي، "سفنكس يا خواجة"، لكنه قال:
- لقد كسرت الإشارة يا أستاذ.
ارتسمت على وجهي علامات التعجب، نظرت عبر زجاج السيارة الأمامي، فلم أجد أعمدة، أو إشارات. أشرت بكلتا يديي، وأنا أقول معترضا:
- أية إشارة؟ أين هي؟
أشار بكل هدوء نحو مكان على الأرض خارج نطاق رؤيتي:
- هذه الإشارة يا محترم.
نزعت حزام الأمان، خرجت بنصف جسدي من النافذة، لأنظر حيث يشير. لم أرى شيئا، حدثته بلهجة صارخة:
- أية إشارة تلك؟
- ارجع قليلا إلي الوراء، وسوف تراها يا محترم.
أرجعت السيارة إلي الخلف، ترجلت عنها غاضبا، لأرى تلك الإشارة. وجدت ما يشبه أثر مشوش، لما كان يمكن أن يسمى بطلاء منذ عدة عقود. نظرت نحو الجندي غاضبا:
- ما هذا؟ هل كان هناك مسابقة لعب بالطباشير للأطفال؟
- لا، يا أستاذ. أنا لا أسمح لك. هذه إشارة عمرها من عمر الميدان، ولا أسمح لك أن تستهزيء بها، هذه إشارة الخديوي إسماعيل.
لم أستوعب عما يتحدث، رددت متسائلا:
- خديوي، من؟
أجاب متباهيا بمعلوماته التاريخية العظيمة:
- الخديوي إسماعيل، من بنى هذا الميدان.
- يا أخ، هل كانت السيارات في زمن هذا الخديوي، تحتاج إلي إشارات مرورية؟.
- ليس لدي وقتا يا أستاذ. نحرر مخالفة، أم نقول كل سنة وأنت طيب؟.
عرفت ما يرمى إليه، لكني لست من هذا النوع. أعلم أنه جندي مسكين يستحق المساعدة. فما هو إلا أحد أبناء النجوع والأقاليم البسطاء، لم يكمل تعليمه في غالب الظن. لكن لا يمكن أن أساعده على فعلته أبدا. قلت وأنا أستدير مبتعدا:
- كل سنة وأنت طيب.
كرر السؤال بصوت غاضب. ألتفت نحوه، أخبرته أني لن أدفع رشوة أبدا، وأن هذا مخالف للدين والأخلاق والقوانين. بدت عليه علامات الاضطراب، يبدو أنه لم يقابل أحدا ألقى عليه مثل هذه المحاضرة الأخلاقية من قبل.
أخذ ينظر حوله كمن يستغيث. اقترب منا أمين شرطة، وجهه أشبه بخيارة، مرسوم عليها شارب رفيع، يكاد زيه أن يسقط من فوق جسده النحيل. ارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء، وهو يسأل رفيقه:
- ما المشكلة يا خضر؟
بكل براءة:
- لا شيء، الأستاذ كسر إشارة الخديوي إسماعيل، ولا يريد أن أحرر له مخالفة.
ازدادت ابتسامة هذه الخيارة، التي نبت من أطرافها إنسان. أمسك يدي، تنحى بي جانبا، قام بدور من يخلصني من ورطة كبيرة:
- يا أستاذ، لا داعي لتحرير مخالفات، خصوصا بعد تطبيق القانون الجديد.
يبدو أن المشروع الذي أنشغلت به في الفترة الماضية، قطعني عن الحياة تماما. بدت على وجهي علامات التعجب، التي قرأها السيد خيارة. استرسل قائلا في همس، كمن يفضي لي بأسرار حربية:
- وقد تم تشديد الغرامات وتغليظ العقوبات. مخالفة مثل كسر هذه الإشارة قد تدفع فيها آلاف الجنيهات. وقد تحبس أيضا لمدة عام أو أثنين.
غمز بعينه قائلا:
- وكل سنة وأنت طيب.
أذهلني ما قاله، لكن من عاداتي أني لا أرضخ بسهولة، هذه خبرة أكتسبتها من الزواج. صرخت فيه:
- وهل تسمى هذه إشارة؟
شعر أنه لا رجاء مني، غمز لرفيقه، ليحرر لي مخالفة. انطلق خضر ينفذ الأمر. طلب مني رخصة القيادة، وأوراق ملكية السيارة، ليحرر المخالفة. كنت سأصرخ مهددا بأني وأني......


لكن قاطعنا قائد السيارة التي تقف إلي جوارنا منذ مدة، ولم ننتبه لوجودها. يقودها رجل ريفي سمين، يبدو عليه أثر النعمة، ذو كرش عظيم، وجهه ممتلئ، يعلوه شارب كبير، يرتدي جلبابا تعلوه عباءة سوداء، تكسو رأسه عمامة منسقة. كان محشورا خلف عجلة قيادة سيارته الفارهة. تجلس زوجته في الكرسي المجاور، ترتدي جلبابا أسودا، وطرحة سوداء، والكثير من المصوغات الذهبية.
خرج برأسه من نافذة السيارة، أشار إلي لأقترب منه، تركت خضر منتظرا بكرشه وبذلته التي فقدت لونها الأبيض، أنحنيت نحو السائق الريفي، سألني:
- لو سمحت يا أستاذ، من أين يذهبون إلي الملاهي المائية؟
نظرت داخل السيارة لعلى أجد أحفاده، فربما جاء لينزههم، لكنى لم أجد أحدا. كدت أن أنفجر في وجه صارخا فهذا ليس وقتا مناسبا، لكني وجدتها فرصة سانحة لتجاهل خضر، الذي لم يتركنا في حالنا، ودفعه الفضول ليقترب منا. وما أن مرت ثواني معدودة، حتى اشترك معنا في الحوار، وقاطعني ليقوم بوصف الطريق ل"حضرة العمدة"، على حد تعبيره.
تطلبت العملية جهدا جهيدا، ليس لغباء حضرة العمدة لا سمح الله، ولا لقصور في وصف خضر، الذي لم يبخل بشرح أدق التفاصيل. حتى أنه لم يترك مطبا أو حفرة، قد تساعد حضرة العمدة في بلوغ هدفه، دون أن يأتي على ذكرها. لكن المشكلة تكمن في أن الطرق في مصر، مثلها مثل جحر كبير، تسكنه الثعابين الضخمة فارهة الطول، التي لا تعرف لها أول من آخر. لمن ينتمي هذا الذيل؟ أو لمن تنتمي هذه الرأس؟. لا توجد علامات إرشادية تهديك السبيل؟.
في معظم الأحوال، لا تملك إلا أن تردد النشيد الوطني للتائهين "المحلة منين، يا سمنودي؟"


بينما نقوم بعملية الشرح هذه، قاطعتنا آلة تنبيه ارتفع صوتها بشدة، أطلقها شخص نفد صبره،،،


جاري تشحيم وتزييت الجزء التالي، يرجى الانتظار،،،


بقلم: عدنان القماش.
29 يوليو 2008.
المنصورة، جمهورية مصر العربية.









-2-



سيارتي وسيارة العمدة كانتا تغلقان الميدان أمام الرجل الذي أطلق صوت آلة التنبية. ترجل عن سيارته غاضبا، توجه نحونا صارخا:
- حرام عليكم، زوجتي تلد، قد تضع حملها في أية لحظة.
تلت جملته صرخة أطلقتها زوجته، فاقت بمراحل صوت آلة التنبية التي أطلقها الرجل. ارتسمت على وجه خضر علامة من وجد كنزا، عنف الرجل قائلا:
- لماذا استخدمت آلة التنبيه يا أستاذ؟ ألا تعلم أنها مخالفة تستوجب الحبس.
- أي مخالفة، أيها المخلوق؟ ألا ترى أنكم أوقفتم الميدان بأكمله، وحالة زوجتي حرجة؟
- نسجل المخالفة، وترى المحروس في زيارات الخميس والجمعة، مع أرغفة الخبز والحلاوة الطحينية؟ أم نقول كل سنة وأنت طيب؟
تجاهل الرجل خضر، ركض نحو زوجته ليطمئن عليها، كانت حالته أصعب من أن يفهم ما يحدث. لم أفهم خضر هذا، كان يبدو كالمنوم مغناطسيا. ما أن ابتعد الرجل، وجه خضر كلامه إلي العمدة سائلا سؤاله المعتاد.
يبدو على العمدة أنه رجل ثري، ممن اعتادوا التباهي بما حباهم الله من كرم. مد يده تحت جلبابه ليخرج حافظة نقوده، وهو يقول:
- خذ يا بركة، أنت تستحق أكثر من هذا. واعتذر نيابة عنا إلي الخديوي إسماعيل. ولو رغب تعويضا عن أي أضرار، سأترك لك رقم هاتفي المحمول، فليخابرني.
تهللت أسارير خضر، وقف متلهفا منتظرا مبلغا كبيرا من المال. لم أكن لأسمح بحدوث هذا، فمعناه أن كل ما أومن به قد انهار، ويكون ذلك الخضر قد انتصر. أمسكت يد العمدة، نهرته لشروعه في دفع رشوة. أبعد يدي برفق قائلا:
- إنه رجل غلبان يا أستاذ.
- هناك من هم أكثر منه غلبا. وهل نسيت يا حضرة العمدة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي ؟ (2).
تلعثم العمدة:
- طبعا....صحيح....لكن....ماذا عن الملاهي المائية؟
- يا عمدتنا، هل هناك ملاهي أكبر مما نحن فيها الآن؟
اقتنع العمدة، عاد إلي رشده، أخذ يستغفر ربه. شعرت بكراهية خضر تزداد نحوي، مد يده بعصبية طالبا التراخيص وأوراق الملكية، أخذ يحرر لنا المخالفات.
ترجل العمدة عن سيارته، تنحى بي جانبا:
- أليس من الأفضل أن ندفع له وننهي الموضوع يا أستاذ؟
- يا عمدة هذا الرجل لن يشبع، وأنت بذلك تساعده على الاستمرار. اهدأ يا عمدتنا ولا تخف. فهل هناك شيء اسمه إشارة الخديوي؟.
أبدى العمدة اقتناعه وتأييده لما قلت، رغم أن شعورى أنبأني بأنه لا يعلم عما أتحدث.


عاد الرجل، صرخ في خضر ليفتح الطريق، لكي يمر بزوجته التي تلد. ابتسم خضر قائلا:
- هل قلنا، كل سنة وأنت طيب.
دفعني الغضب أن أسحب خضر من ذارعه - أخذ يقاومني قليلا-، تنحيت به جانبا، نهرته قائلا:
- هذا كثير جدا يا خضر، زوجة الرجل تلد. من الممكن أن تكون قاس القلب، بل قد يملأ الجشع قلبك، لكن ليس إلي هذا الحد.
أخذ يعدل بذلته الرثة، كأني أفسدت الكي الذي أجهد نفسه فيه بالأمس، - وإن كنت أظن أن بذلته هذه، لا يفلح معها غير مادة النشاء-، نظر إلي بكل برود وسماجة:
- يا أستاذ، إنه رجل بخيل، يمكنه قول "كل سنة وأنت طيب". ولو فعل، لكان الآن فرحا بالمحروس في حضنه.
توقف ليعدل من وضع حزامه الأسود فوق كرشه الكبير، قبل أن يقول:
- وماذا سيحدث إن ولدت زوجته في الميدان، الولادة ستكون في سيارة مكيفة.
أنا على سبيل المثال، ولدتني أمي وهي تعمل في الحقل، ثم لفتني في قماشة، ووضعتني جانبا، وأكملت عملها. وها أنا ذا أمامك، صاغ سليم، ولا أجدعها مجند في بر المحروسة كلها. بل أن الكثيرين يظنون أني ضابط من ظهر ضابط.
ما أن أتم كلامه، جاء الرجل مسرعا، وضع مبلغا من النقود في يد خضر، وهو يكرر في جنون:
- كل سنة وأنت طيب، كل سنة وأنت.......طيـــــــــــــــــــــــب.
أمر خضر العمدة بأن يحرك سيارته سريعا، قائلا:
- افسح الطريق يا عمدة، زوجة الرجل تلد.
انطلق الرجل بسيارته بأقصى سرعة، يصاحبه صوت زوجته الذي أخذ يعلو كصافرة سيارة الإسعاف. انطلق من خلفه سيل من السيارات التي كانت محتجزة، وأنهال سيل من السباب والشتائم على هذا الخضر.
تجاهل خضر كل هذا القدر من الإهانات، وهو يدون أرقام هذه السيارات، متوعدا إياهم بأعتى السجون.


عاد بعدها لإتمام عمله في تحرير المخالفتين، ظننت أننا سننصرف بعد ذلك. كنت أخطط لاصطحاب العمدة إلي إحدى جهات الرقابة الإدارية، لتقديم شكوة في خضر. لكن هذا لم يكن، ابتسم خضر قائلا بسخرية:
- في العجلة الندامة يا أستاذ. يجب أن يتم عرضكما على حضرة الضابط أولا، قبل أن يتم نقلكما إلي سراي النيابة الجديدة، نظرا لارتكابكما مخالفات تستوجب الحبس.


لم ينتظر منا ردا، ما أن أتم كلامه، أشار إلي السيد خيارة ليصطحبنا. ما أن اقتربنا من مكان تواجد سيادة الضابط المسئول، رأينا مواطنا - يجره جنديان مبتعدين به عن المكان-، يصرخ بأعلي صوته:
- لن أفعل هذا مرة أخرى، لن أعود لمثل هذه الفعلة.
وصلنا حيث كان سيادة الضابط جالسا أمام سيارة الشرطة "البوكس"، يئن من تحته ذلك الكرسي الأصفر المرسوم عليه أحد ملوك الفراعنة راكبا عجلته الحربية التي تجرها الخيول، مطاردا أعداء الوطن.
قبل أن أعُرف الضابط بنفسي، وأشرح له المسألة. وقف بيني وبينه السيد خيارة، شهد بكل ما جاء في المخالفتين. مَهر الضابط المخالفتين بتوقيعه، أشار إلي جنديين يقفان إلي جواره أن يأخذانا.
قبل أن أنهره غاضبا، اقتادنا الجنديان بعيدا، بعد أن جردانا من هواتفنا المحمولة. آثرت السلامة، أعلم أن الجنديين سيتعاملان معي بكل ضراوة، إذا تطاولت على حضرة الضابط "الباشا"، كأنهما مسوخ بلا عقل أو إرادة.


ركب السيد خيارة إلي جوار السائق في تلك السيارة الضخمة التي يشحن فيها عتاة المجرمين. كان هناك عددا كبيرا من تلك السيارات يقف في أحد الشوارع المجاورة للميدان، وقد امتلأت كلها عن آخرها.
جلست في السيارة، عن يميني العمدة. وعن يساري شاب يرتدي نظارة تميل إلي أحد جانبيها، له وجه نحيل، ويرتدي قميصا وسروالا متواضعين.
وأمامي ذلك المواطن الذي كان يصرخ متعهدا بعدم تكرار فعلته مرة أخرى. كان يرتجف بشدة، تعلو وجهه بعض الكدمات، التي لم تجعلني أميز ملامحه. لكن لم أكن لأخطئ شعره الخشن الذي يتشابك فوق رأسه في حلقات متداخلة، يرتدي قميصا رخيصا يدعي "توفُسكُس". إلي جواره شابان آخران، لم أدقق في ملامحهما كثيرا، لا يصدر عنهما أي ردة فعل، يبدو جليا أنهما يحلقان في عالم آخر تحت تأثير المخدرات، كذلك لم أتمكن من رؤية أي من الآخرين الذين تزدحم بهم السيارة.
تحركت بنا السيارة، تمايلت يمينا ويسارا بشكل عنيف، مازحت العمدة:
- ما رأيك يا بركة، ها أنت في الملاهي؟
ابتسم على مضض، قال نادما:
- ما كنا دفعنا يا أستاذ، وأنهينا الموضوع؟
- هل سنكرر هذا الكلام مرة أخرى، يا عمدة؟ اصبر واحتسب عند الله.
قاطعنا الشاب المذعور، قائلا بخوف:
- كان يجب أن تدفعا، هم لا يرحمون أحدا، لا يرحمون.


انتابته حالة بكاء شديدة، تأثرنا لها جميعا. ملت نحو الشاب، ربت على كتفه لأهدأ من روعه وأطمئنه، انتفض جسده كمن تلقي صفعة شديدة. قدم له العمدة سيجارة، عرض على أخرى. لكني لا أدخن، وأعجب لأمر المدخنين. إذا فرحوا، دخنوا سيجارة. وإذا حزنوا، دخنوا سيجارة. وإذا لم يجدوا شيئا يفعلونه، دخنوا سيجارة. جمعت حيرتي في سؤال وجهته إلي العمدة هامسا في أذنه:
- ألا تعلم أن التدخين حرام؟
لم يفهم أو تجاهلني. أردت أن أذكره بإحدى الحقائق العلمية عن أثر التدخين:
- أتعلم أن تدخين التبغ يقتل إنسانا كل ثمان ثواني. (3)
أراد أن يكون رده عمليا، عد على أصابعه حتى وصل إلي العدد ثمانية، ارتسمت على وجهه ابتسامة المنتصر، قال:
- يا أستاذ، الأعمار بيد الله.
لم أجد ما أرد به على العمدة، ألتزمت الصمت. أجابني الشاب المذعور:
- وهل للحياة معنى؟ يا أستاذ، حياتنا أصبحت تتساوى مع الأموات.


كنت سأخطب فيه خطبة عصماء، بأن الحياة هبة من الله، يجب أن نستغلها في مرضاته، و...و...لكني شعرت أن حالته لا تسمح بذلك. فضلت أن أطمئنه وأتعرف إليه أولا، قبل أن أبدأ في نصحه:
- لا تخف يا أخي، أخبرني ما بك؟
نظر إلي بعينين دامعتين:
- إنهم لا يرحمون يا أستاذ.
- من هم، وماذا فعلوا بك؟
أخذ يتلفت حوله، كمن يخشى أن يسمعه أحد:
- إنهم رجال يديرون الكثير من الميكروباصات لحساب أحد ضباط الشرطة. عملت لديهم مدة طويلة من الزمن، جاءتني فرصة أفضل لترك العمل، أخبرتهم بذلك، أتهموني بأني ناكر للجميل، لكنهم لم يمنعوني.
سألته:
- جميل، إذا لا مشكلة؟
- الحق يا أستاذ، أيام العمل تحت حماية هذا الضابط كانت نعيما. بالطبع لم أكن أعرفه، ولم ألتق به ولو لمرة واحدة.
لكن كنا نعيش في "جنة رمسيس"، نحمل الركاب من الميدان، رغم أن هذا ممنوع رسميا. وأنت تعلم أن ميدان رمسيس يعد أزحم بقعة على وجه الأرض. كنا كالنحل، ما أن نصل إلي الميدان، حتى نحمل الركاب في دقائق معدودة. وننجز عدة دورات يوميا من وإلي القاهرة. حقا، كانت أياما جميلة.
- حتى هذه النقطة، لا أرى مشكلة.
نفث دخان سيجارته قبل أن يقول:
- انتظر، سأكمل لك.



جاري ترصيص وتضبيط زوايا عجلات الجزء التالي، يرجى الإنتظار،،،



بقلم: عدنان القماش.
1 أغسطس 2008
المنصورة، جمهورية مصر العربية.









-3-



زفر زفرة قوية قبل أن يكمل قصته قائلا:
- كنا لا نعلم شيئا عن "موقف عبود"(4) غير اسمه، لكن بعد بدء العمل على السيارة الجديدة، وجدت نفسي مجبرا على الوقوف في "عبود" لساعات طوال.
كان الركاب كثيرين، لكن لم تكن الدورات بنفس سرعة التحميل من ميدان رمسيس، خصوصا مع وجود تلك السيارات التي تحمل الركاب من رمسيس كما كنت أفعل.
أضفت إلي كلامه:
- بالإضافة إلي وجود بعض البطلجية الذين يفرضون عليكم الإتاوات، كما رأيت في بعض "مواقف الأقاليم"، والذين لا يرحمون من لا سند له.
- لا يا أستاذ، هذا في الأقاليم. أما في موقفنا الحبيب، الإتاوة تأتي من الحكومة نفسها، حيث تحصل على قسيمة بثلاثة جنيهات عن كل دورة لسيارات الأجرة الصغيرة، وإن كانت سيارتك "ميكروباص"، تدفع قسيمتين بستة جنيهات.
- هذا أمر طبيعي، الحكومة توفر لك الكثير من الخدمات في هذا الموقف، من أمن، ونظام، ونظافة، ودورات مياة، وأماكن استراحة...إلخ.


ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة وهو يجيب:
- لو ثبتت الستة جنيهات على حالها لكان الأمر طبيعيا، لكن المبلغ يرتفع بقدرة قادر إلي خمسة عشر جنيها.
- لماذا؟
- هكذا يطلب منك الموظف المختص.
- وهل تحصل به على قسيمة سداد؟
- بالطبع لا.
- يحق لك الاعتراض.
- إذا أعترضت، يعيد إليك الموظف النقود. لكنك تجد من يأتي إليك بعد ذلك، ويحرر لك مخالفة بمبلغ كبير. مثل تركك لمسافة كبيرة بينك وبين السيارة التي أمامك في الطابور.
- يمكنك أن ترفع شكوى.


ابتسم ابتسامة مريرة وهو يقول:
- الشكوى لغير الله مذلة يا أستاذ. وهل تظن هذا الموظف المسكين يضع كل هذه النقود في جيبه؟. كما أنهم ابتدعوا أمرا عجيبا، حيث أن السيارة التي لا تسجل حضورها في الموقف، يتم احتسابها غائبة، وكأننا في مدرسة. وفي نهاية كل عام يتم احتساب عدد أيام الغياب، وتدفع مبلغا من المال عن كل يوم "وأنت ونصيبك".
- وهل تحصل على قسيمة سداد عن هذا؟
- نعم، مكتوب عليها "تم السداد، مع الشكر"، ومختومة بختم على شكل مثلث، دون إيضاح الجهة التي تصدر عنها هذه القسيمة!


بعد برهة من الصمت، أكمل قصته قائلا:
- بعد عدة أيام ضقت ذرعا، قررت العودة إلي "رمسيس" لتحميل الركاب، كما كانت الأيام الخوالي.
وبالفعل أنجزت المهمة بنجاح، فما أيسر السبيل إلي ذلك. فالتعريفة محددة مسبقا، وهي عبارة عن ربع حمولة السيارة من الركاب، وكما ترى الفارق في التعريفة ليس كبيرا عما ندفعه في الموقف الرسمي. يمر بنا أحد الرجال المعروفين لدينا، يجمع المتعارف عليه أو كما نسميه "المعلوم"، بعدها تسير الأمور بشكل سليم.
مرت الأيام هنيئة، حتى أصدر سيادة الضابط قانونا بعدم السماح بالتحميل من "رمسيس" لأي سائق ترك إحدى السيارات التابعة له. فأمرني رجال "الباشا"، بأن أرحل عن المكان، وعدم العودة مرة أخرى.
أكملت له الأحداث قائلا:
- وعندما اعترضت وصرخت بأن الجميع يفعلون هذا، انهالوا عليك بالضرب.
- نعم يا أستاذ، هذا ما حدث. بعدها تم تسليمي لمن يحرر لي مخالفة تحميل الركاب من "رمسيس"، لأن هذا غير مصرح به.


دخل في حالة من الصمت، وكأنه يستعيد تلك الذكريات الأليمة التي مرت حتى التقى بنا. قاطعت صمته سائلا:
- بالمناسبة، لم نتعارف بعد، "اسم الكريم إيه؟"
أجاب متفاخرا:
- حمادة أبو رجل ذهب.
ضحكنا لطرافة الاسم وضحك معنا. وجهت كلامي إلي العمدة:
- لا أعلم يا عمدتنا كيف تدار الأمور في دولتنا الحبيبة؟
- لماذا يا أستاذ؟ الأمور تسير كما ينبغي والحمد لله.
- لا، حقا. لقد نقلوا الموقف إلي "عبود"، وهذه منطقة على حدود محافظة القاهرة، ولا يصل إليها "المترو". لا أعلم لماذا لم يقوموا بنقله إلي منطقة "المؤسسة" - والمجاورة لموقف عبود – ويصلها "المترو"؟. كان هذا سييسر على الركاب الكثير.
قال العمدة متحمسا:
- بالتأكيد أنهم درسوا وخططوا يا أستاذ، ووجدوا أن هذا هو الحل الأمثل. الأمور لا يمكن أن تكون "سداح، مداح" كما تظنها.
لم أجب العمدة، أجاب حمادة معللا القرار:
- "المؤسسة" منطقة تقع في نطاق محافظة أخرى، مما سيؤدي إلي فقد محافظة القاهرة لهذا الدخل الكبير من الرسوم التي تفرض على السائقين.


هززت رأسي متعجبا، شعرت كأنه يتحدث عن ملوك الطوائف في الأندلس، وليس محافظات تخضع لحكم دولة واحدة. لم أعلق على كلامه، لكن عبرت عن دهشتي من نقطة أخرى :
- الأعجب من هذا يا أخ حمادة، هو سيارات الأجرة التي تم تخصصيها لنقل الركاب من "رمسيس" إلي موقف "عبود"، والتي لم أرى ما هو أردأ منها في حياتي، وكأنها من مخلفات الحرب العالمية الأولى.
نظرت إلي العمدة كأني أعطيه الفرصه لإبداء رأيه، أشار إلي لأكمل، قلت:
- ذات مرة أردت زيارة أحد أصدقاء الجامعة، والذي يسكن في مدينة طنطا. وكنت أخشى استخدام سيارتي على الطرق السريعة، حيث تنتشر سيارات النقل الثقيل ليلا ونهارا كحيوانات وحيد القرن، تركض هائجة بصورة لا يمكن السيطرة عليها.
سألني حمادة مبديا تعجبه وغضبه:
- أرأيت هذه الطرق الرديئة يا أستاذ؟ هل تتخيل أنهم يحصلون منا أموالا لاستخدام هذه الطرق المنهارة؟
أجابه العمدة بتحفز:
- وما المشكلة يا أخ حمادة؟ في اليابان، الناس يدفعون لاستخدام الطرق.
استشاط حمادة غيظا من العمدة، كاد أن ينفجر في وجهه صارخا. أمسكت بزمام الحديث لألطف الأجواء بينهما، قلت مازحا:
- وما علاقة الطرق التي لدينا باليابان يا عمدة؟. أظن الفراعنة تحت قيادة أحمس، لم يهزموا الهكسوس، إلا بعد أن فطنوا إلي فكرة الطرق الرديئة هذه. حيث أن ما فيها من حفر ومطبات، كان كافيا لتحطيم عجلات الهكسوس الحربية.


ضحك الجميع، رجعت لإكمال قصتي قائلا:
- في الماضي، كنت أفضل ركوب القطارات، هذا بالطبع قبل أن تصبح القطارات وسيلة مواصلات إلي الآخرة.
شرد العمدة ببصرة، قبل أن يقول بنبرة حزينة:
- لديك كل الحق يا أستاذ. الله ينتقم منهم الإنجليز، هم السبب في كل ما يحدث لنا الآن. يجلبون إلينا الشئ، ويتركوه يقتل خلق الله هكذا.
التفت نحونا متحمسا، سألنا:
- ألا تظنون أنه ينبغي أن تصدر فتوى بتحريم ركوب القطارات، لكون ذلك يعد انتحارا؟.
لم يجبه أحد. بدا عليه شديد التأثر والضجر من موقفنا، كيف نتجاهله هكذا؟ وما هذه النظرات التي نمطره بها من حين لآخر؟. نفخ صدره لينبهنا إلي مكانته، وكأنه يقول: " تتجاهلوني هكذا؟، وأنا الذي إذا نطق بأي رأي، تهتز الرءوس موافقة ومؤيدة".


آثر الصمت، أكملت قائلا:
- بما أنني رجل صاحب مبادئ. قررت الالتزام بتعمليات الدولة للمساعدة في إرساء النظام والقانون. وكانت تتملكني حالة من الزهد والورع في تلك الأيام، تجعلني أنفق المال بحكمة، وأستخدم الفرق في النفقات لزيادة ما أخرجه في سبيل الله، فقررت أن أركب "ميكروباص" بدلا من "التاكسي".
وقفت في ميدان "رمسيس" منتظرا إحدى هذه السيارات التي لا يمكن أن تتخيل وجودها حتى في قلب أحراش أفريقيا.
استوليت على الكرسي المجاور للسائق بعد معركة ليست بالهينة. قبل أن أستمتع بلحظات النصر، أدهشني السائق برغبته في أن يُجلس إلي جواري راكبا آخر. رغم أن مثل هذا الكرسي في هذا النوع من السيارات، لا يمكن أن يحمل أكثر من راكب واحد. اعترضت، رفض السائق اعتراضي. طالبني بدفع أجرتين إن صممت على البقاء بمفردي في الكرسي، دفعت الأجرتين لأحافظ على آدميتي وآدمية الراكب الآخر.


قال الأخ حمادة أبو رجل ذهب موضحا:
- يا أستاذ هذا الكرسي واسع، ويمكنه حمل اثنين.
- اثنان؟. يا أخ حمادة، السيارة بمجملها لا يمكن أن يستخدمها بشر. وبالمناسبة، هل المساحة المجاورة لباب السيارة تتسع لحمل ركاب أيضا؟.
بدى عليه الشعور بالخجل، لأن معظم سائقي الميكروباص، يضعون بعض الركاب في المنطقة المجاورة للباب. ويظل الراكب منحنينا فوق الصف الذي يجاوره، وتنخر أنفاسه وجوه الجالسين على الكراسي.


أكملت حديثي:
- بدأت السيارة رحلتها، أخذت تهدهدني، راحت عيناي في النوم. وهذه كانت مفاجأة بالنسبة لي، لأني كنت محروما من هذا الطبع الموجود لدى معظم أهل مصر، وهو النوم أثناء ركوب المواصلات.
حيث يمكنك أن ترى رجلا واضعا حقيبة سفره بين ساقيه، ممسكا بأحد أعمدة الأتوبيس ، بينما يضع يده الأخرى فوق مكان حافظة نقوده ليحفظها من النشل، ثم يغط في سبات عميق. وكأنه مسافر على متن طائرة في درجة رجال الأعمال.
أو تجد آخر نائما في حضنك، كأنه طفلك تحمله بين ذراعيك. وبعد أن تضيق به ذرعا، توقظه، يعتذر لك، لكن سرعان ما يعود مرة أخرى إلي حضنك، كأنه قد اشتاق إليه كثيرا.
لكي لا أطيل عليكم، ما أن ذهبت عيناي في النوم لدقائق معدودة، أستيقظت مفزوعا، نتيجة اصطدام رأسي بسقف السيارة، ثم بالباب. أخذت السيارة تتمايل بشدة، كأنها ستنقلب رأسا على عقب. أثناء ذلك علت العديد من الصرخات، وعبارات الذكر مثل "الله أكبر"، "لا حول ولا قوة إلا بالله".


بادر حمادة بالكلام، تقمص دور الخبير العالمي الذي لا يشق له غبار - وكيف لا وهذا مجال اختصاصه، أصدر حكمه بكل ثقة قائلا:
- يبدو لي يا أستاذ، أن السائق كان حمارا؟
- لا يا أخ حمادة، المشكلة لم تكن نتيجة لحادث مع سيارة أخرى. كل ما في الأمر، أن إحدى العجلات انفصلت بمجملها عن العمود المثبتة إليه، نتيجة للحالة السيئة التي كانت تعاني منها السيارة. كانت كعجوزا في التسعين من عمرها، يريدون منها التدرب على رفع الأثقال، والاستعداد للمنافسة على ميدلية أوليمبية.


تحمس العمدة كثيرا للقصة، سألني بلهفة:
- هل كان هناك ضحايا يا أستاذ؟
- لله الحمد، مر الأمر بسلام.
- أتعلم يا أستاذ، لقد ذكرتني قصتك بالحوادث التي تتكرر كثيرا عند قريتنا:
تحدث في أغلب الأحيان عند انتقال سائقي الجرارات من أحد جانبي القرية إلي الجانب الآخر، حيث أن الطريق السريع يقسم قريتنا إلي نصفين.
يحاول السائق أن ينضم إلي الطريق المعاكس من إحدى النوافذ المرورية بسرعته البطيئة، فتصطدم به سيارة مسرعة.


صمت قليلا، وكأنه يجتر ذكريات أليمة، قال بتأثر شديد:
- لكن الكارثة الأكبر يا أستاذ، تحدث عندما يحاول أحد أهل القرية عبور الطريق السريع، فتصدمه سيارة مسرعة، وغالبا ما يكون الضحايا من صغار السن. ينتج عن ذلك، خروج أهل القرية إلي الطريق غاضبين، ويحطمون جميع السيارات التي تمر بعد ذلك، ويغلقون الطريق.
سرعان ما أشرق وجه العمدة بابتسامه عريضة، وهو يشيد بدوره في تهدئة أهل قريته، بلعن هذا، وسب ذاك. واتهامهم بالتسبب في كل البلاوي والمصائب التي تتساقط على رءوسهم.


لا أعلم لماذا تخيلت العمدة وأهل قريته متحلقين عاكفين على إحدى هذه الحوادث، يلوكون سيرتها لأسابيع عديدة، ولا يملون من تكرار وصفها - وتضاف في كل مرة تفاصيل جديدة، لم يسمع بها أحد من قبل-، في محاولة منهم لحل لغز حدوثها، لكنهم دائما لا يستطيعون معرفة السر.
أخرجني العمدة من تخيلاتي، بإطلاق أحد تحليلاته بكل ثقة:
- رغم حزني لفقد أي منهم، إلا أني لا أخفي عليك، إنهم يستحقون أكثر من هذا، فهم لا يفقهون شيئا.
- أرى الذنب ذنب الحكومة.
- وماذا ستفعل لهم الحكومة أكثر مما تفعل يا أستاذ؟. الحكومة لا تألو جهدا في بناء كوبري المشاة الذي سيجعل حياتنا نعيما. نعم، مرت عدة أعوام ولم ينتهي بناء الكوبري بعد، لكن لما العجلة؟.
هل نريد منهم أن يضربوا الأرض، فتخرج لنا بطيخا؟، الدنيا لم تبنى في يوم واحد يا أستاذ.
والمسافرون أيضا مخطئون، لماذا يتعجلون هكذا على الطرق السريعة؟، هل ستطير الدنيا؟، أم إنهم يتوجهون إلي الديوان؟.


نظرت إليه مندهشا، سألته:
- يا عمدتنا، هل تريد من المسافرين القيادة على سرعة أقل من تسعين كيلو مترا في الساعة؟ وفي بعض المناطق، تطالبهم إشارات مرورية بالسير على سرعة ستين كيلو مترا في الساعة؟ هل يمكن أن تسمي هذا بطريق سريع؟.


لم يخف العمدة نظرة الضجر التي ملأت عينيه، وكأن لسان حاله يقول "لا يضايقني إلا المتحذلقين أمثالك". قال الشاب الجالس إلي يساري بصوت حزين:
- وهل هناك أكثر مما يفعلونه بسائقي "التوك توك"(5) يا أستاذ؟.
جاء صوته حزينا معبرا عن مأساة يعيشها، قبل أن يعود إلي صمته.



جاري الكشف على محرك السيارة، يبدو أنه يحتاج إلي "عَمرة"، يرجى الانتظار،،،



بقلم: عدنان القماش.
18 أغسطس 2008.
أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة.



-------------------
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفعت إلى السدرة ، فإذا أربعة أنهار : نهران ظاهران ونهران باطنان ، فأما الظاهران: النيل والفرات
جزء من حديث صحيح.
الراوي: أنس بن مالك، المحدث: البخاري، المصدر: الجامع الصحيح. الصفحة أو الرقم: 5610.

(2) حديث صحيح.
38425 - لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي 
الراوي: عبدالله بن عمرو بن العاص - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 1337

(3) إحصاءات صادرة عن منظمة الصحة العالمية، للإطلاع على المزيد يرجى زيارة الرابط التالي:
http://www.who.int/topics/tobacco/en/ 
عذرا: هذا الموضوع لا توجد له ترجمة باللغة العربية، رغم أن الموقع يستخدم اللغة العربية كإحدى لغاته الست.

4) "عبود": هو الموقف الرسمي لسيارات الأجرة بين المحافظات والقاهرة.

5) "التوك توك": ما يشبه الدراجة البخارية، صمم لها صندوق ذو مقعد خلفي، فأصبحت كسيارة صغيرة تحمل ثلاثة أشخاص في المؤخرة، بالإضافة إلي السائق في المقدمة. اشتهر كثيرا في الهند والصين.







-------------------

تنبية هام: جميع الشخصيات والهيئات والأحداث والمركبات من وحي خيال الكاتب. ولا تمت بصلة من قريب أو بعيد لشخص أو هيئة أو مكان أو مركبة. ولو وجدت علاقة، فهي على سبيل الصدفة المحضة.